فصل: الحجابة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الحجابة

قد قدمنا أن هذا اللقب كان مخصوصاً في الدولة الأمويه والعباسية بمن يحجب السلطان عن العامة ويغلق بابه دونهم أو يفتحه لهم على قدره في مواقيته‏.‏ وكانت هذه منزلة يومئذ عن الخطط مرؤوسة لها إذ الوزير متصرف فيها بما يراه‏.‏ وهكذا كانت سائر أيام بني العباس وإلى هذا العهد فهي بمصر مرؤوسة لصاحب الخطة العليا المسمى بالنائب‏.‏ وأما في الدولة الأموية بالأندلس فكانت الحجابة لمن يحجب السلطان في الخاصة والعامة ويكون واسطة بينه وبين الوزراء فمن دونهم‏.‏ فكانت في دولتهم رفيعة غاية كما تراه في أخبارهم كابن حديد وغيره من حجابهم‏.‏ ثم لما جاء الاستبداذ على الدولة اختص المستبد باسم الحجابة لشرفها‏.‏ فكان المنصور بن أبي عامر وأبناؤه كذلك‏.‏ ولما بدؤوا في مظاهر الملك وأطواره جاء من بعدهم من ملوك الطوائف فلم يتركوا لقبها وكانوا يعدونها شرفاً لهم وكان أعظمهم ملكاً بعد انتحال ألقاب الملك وأسمائه لا بد له من ذكر الحاجب وفي الوزارتين يعنون به السيف والقلم ويدلون بالحجابة على حجابة السلطان عن العامة والخاصة وبذي الوزارتين على جمعه لخطتي السيف والقلم‏.‏ ثم لم يكن في دول المغرب وإفريقية ذكر لهذا الاسم للبداوة التي كانت فيهم‏.‏ وربما يوجد في دولة العبيديين بمصر عند استعظامها وحضارتها إلا أنه قليل‏.‏ ولما جاءت دولة الموحدين لم تستمكن فيها الحضارة الداعية إلى انتحال الألقاب وتمييز الخطط وتعيينها بالأسماء إلا آخراً‏.‏ فلم يكن عندهم من الرتب إلا الوزير فكانوا أولاً يخصون بهذا الاسم الكاتب المتصرف المشارك للسلطان في خاص أمره كابن عطية وعبد السلام الكومي‏.‏ وكان له مع ذلك النظر في الحساب والأشغال المالية‏.‏ ثم صار بعد ذلك اسم الوزير لأهل نسب وأما بنو أبي حفص بإفريقية فكانت الرياسة في دولتهم أولاً والتقديم لوزير الرأي والمشورة‏.‏ وكان يخص باسم شيخ الموحدين‏.‏ وكان له النظر في الولايات والعزل وقود العساكر والحروب واختص الحسبان والديوان برتبة أخرى ويسمى متوليها بصاحب الأشغال ينظر فيها النظر المطلق في الدخل والخرج ويحاسب ويستخلص الأموال ويعاقب على التفريط وكان من شرطه أن يكون من الموحدين‏.‏ واختص عندهم القلم أيضاً بمن يجيد الترسيل ويؤتمن على الأسرار لأن الكتابة لم تكن من منتحل القوم ولا الترسيل بلسانهم فلم يشترط فيه النسب واحتاج السلطان لاتساع ملكه وكثرة المرتزقين بداره إلى قهرمان خاص بداره في أحواله يجريها على قدرها وترتيبها من رزق وعطاء وكسوة ونفقة في المطابخ والاصطبلات وغيرهما وحصر الذخيرة وتنفيذ ما يحتاج إليه في ذلك على أهل الجباية فخصوه باسم الحاجب‏.‏ وربما أضافوا إليه كتابة العلامة على السجلات إذا اتفق أنه يحسن صناعة الكتابة وربما جعلوه لغيره‏.‏ واستمر الأمر على ذلك وحجب السلطان نفسه عن الناس فصار هذا الحاجب واسطة بين الناس وبين أهل الرتب كلهم‏.‏ ثم جمع له آخر الدولة السيف والحرب ثم الرأي والمشورة فصارت الخطة أرفع الرتب وأوعبها للخطط‏.‏ ثم جاء الاستبداد والحجر مدة من بعد السلطان الثاني عشر منهم‏.‏ ثم استبد بعد ذلك حفيده السلطان أبو العباس على نفسه وأذهب آثار الحجر والاستبداد بإذهاب خطة الحجابة التي كانت سلماً إليه وباشر أموره كلها بنفسه من غير استعانة بأحد‏.‏ والأمر على ذلك لهذا العهد‏.‏ وأما دولة زناتة بالمغرب‏:‏ وأعظمها دولة بني مرين فلا آثر لاسم الحاجب عندهم‏.‏ وأما رياسة الحرب والعساكر فهي للوزير‏.‏ ورتبة القلم في الحسبان والرسائل راجعة إلى من يحسنها من أهلها وإن اختصت ببعض البيوت المصطنعين في دولتهم‏.‏ وقد تجمع عندهم وقد تفرق‏.‏ وأما باب السلطان وحجبه عن العامة فهي رتبة عندهم يسمى صاحبها بالمزوار ومعناه المقدم على الجنادرة المتصرفين بباب السلطان في تنفيذ أوامره وتصريف عقوباته وإنزال سطواته وحفظ المعتقلين في سجونه والعريف عليهم في ذلك‏.‏ فالباب له وأخذ الناس بالوقوف عند الحدود في دار العامة راجع إليه فكأنها وزارة صغرى‏.‏ وأما دولة بني عبد الواد‏:‏ فلا أثر عندهم لشيء من هذه الألقاب ولا تمييز الخطط لبداوة دولتهم وقصورها‏.‏ وإنما يخصون باسم الحاجب في بعض الأحوال منفذ الخاص بالسلطان في داره كما كان في دولة بني أبي حفص وقد يجمعون له الحسبان والسجل كما كان فيها حملهم على ذلك تقليد الدولة بما كانوا في تبعها وقائمين بدعوتها منذ أول أمرهم‏.‏ وأما أهل الأندلس لهذا العهد فالمخصوص عندهم بالحسبان وتنفيذ‏.‏ السلطان وسائر الأمور المالية يسمونه بالوكيل وأما الوزير فكالوزير إلا أنه قد يجمع الترسيل‏.‏ والسلطان عندهم يضع خطه على السجلات كلها فليس هناك خطة العلامة كما لغيرهم من الدول‏.‏ وأما دولة الترك بمصر‏:‏ فاسم الحاجب عندهم موضوع لحاكم من أهل وهم الترك ينفذ الأحكام بين الناس في المدينة وهم متعددون‏.‏ وهذه الوظيفة تحت وظيفة النيابة التي لها الحكم في أهل الدولة وفي العامة على الإطلاق‏.‏ وللنائب التولية والعزل في بعض الوظائف على الأحيان ويقطع القليل من الأرزاق ويثبتها وتنفذ أوامره كما تنفذ المراسم السلطانية‏.‏ وكان له النيابة المطلقة عن السلطان وللحجاب الحكم فقط في طبقات العامة والجند عند الترافع إليهم وإجبار من أبى الانقياد للحكم وطورهم تحت طور النيابة‏.‏ والوزير في دولة الترك هو صاحب الأموال في الدولة على اختلاف أصنافها من خراج أومكس أوجزبة ثم في تصريفها في الإنفاقات السلطانية أو الجرايات المقدرة وله مع ذلك التولية والعزل في سائر العمال المباشرين لهذه الجباية والتنفيذ عنى اختلاف مراتبهم وتباين أصنافهم ومن عوائدهم أن يكون هذا الوزير من صنف القبط القائمين على ديوان الحسبان والجباية لاختصاصهم بذلك في مصر منذ عصور قديمة‏.‏ وقد يوليها السلطان بعض الأحيان لأهل الشوكة من رجالات الترك أو أبنائهم على حسب الداعية لذلك‏.‏ والله مدبر الأمور ومصرفها بحكمته لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين‏.‏ اعلم أن هذه الوظيفة من الوظائف الضرورية للملك وهي القيام على الجبايات وحفظ حقوق الدولة في الدخل والخرج وإحصاء ا لعساكر بأسمائهم وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم في إباناتها والرجوع في ذلك إلى القوانين التي يرتبها قومه تلك الأعمال وقهارمة الدولة وهي كلها مسطورة في كتاب شاهد بتفاصيل ذلك في الدخل والخرح مبني على جزء كبير من الحساب لا يقوم به إلا المهرة من أهل تلك الأعمال ويسمى ذلك الكتاب بالديوان وكذلك مكان جلوس العمال المباشرين لها‏.‏ ويقال‏:‏ إن أصل هذه التسمية أن كسرى نظر يوماً إلى كتاب ديوانه وهم يحسبون على أنفسهم كأنهم يحادثون فقال‏:‏ ديوانه أي مجانين بلغة الفرس فسمي موضعهم بذلك وحذفت الهاء لكثرة الاستعمال تخفيفاً ققيل ديوان ثم نقل هذا الاسم إلى كتاب هذه الأعمال المتضمن للقوانين والحسبانات وقيل‏:‏ إنه اسم للشياطين بالفارسية سمي الكتاب بذلك لسرعة نفوذهم في فهم الأمور ووقوفهم على الجلي والخفي منها وجمعهم لما شذ وتفرق‏.‏ ثم نقل إلى مكان جلوسهم لتلك الأعمال‏.‏ وعلى هذا فيتناول اسم الديوان كتاب الرسائل ومكان جلوسهم بباب السلطان على ما يأتي بعد‏.‏ وقد تفرد هذه الوظيفة بناظر واحد ينظر في سائر هذه الأعمال وقد يفرد كل صنف منها بناظر كما يفرد في بعض الدول النظر في العساكر وإقطاعاتهم وحسبان أعطياتهم أو غير ذلك على حسب مصطلح الدولة وما قرره أولوها‏.‏ واعلم أن هذه الوظيفة إنما تحدث في الدول عند تمكن الغلب والاستيلاء والنظر في أعطاف الملك وفنون التمهيد‏.‏ وأول من وضع الديوان في الدولة الإسلامية عمر رضي الله عنه يقال لسبب مال أتى به أبو هريرة رضي الله عنه من البحرين فاستكثروه وتعبوا في قسمه فسموا إلى إحصاء الأموال وضبط العطاء والحقوق فأشار خالد بن الوليد بالديوان وقال‏:‏ رأيت ملوك الشام يدونون فقبل منه عمر‏.‏ وقيل‏:‏ بل أشار عليه به الهرمزان لما رآه يبعث البعوث بغير ديوان فقيل له‏:‏ ومن يعلم بغيبة من يغيب منهم فإن من تخلف أخل بمكانه وإنما يضبط ذلك الكتاب‏.‏ فأثبت لهم ديواناً‏.‏ وسأل عمر عن اسم الديوان فعبر له‏.‏ ولما اجتمع ذلك أمر عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من كتاب قريش فكتبوا ديوان العساكر الإسلامية على ترتيب الأنساب مبتدأ من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بعدها الأقرب فالأقرب‏.‏ هكذا كان ابتداء ديوان الجيش‏.‏ وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن ذلك كان في المحرم سنة عشرين‏.‏ وأما ديوان الخراج والجبايات فبقي بعد الإسلام على ما كان عليه من قبل‏:‏ ديوان العراق بالفارسية وديوان الشام بالرومية‏.‏ وكتاب الدواوين من أهل العهد من الفريقين‏.‏ ولما جاء عبد الملك بن مروان واستحال الأمر ملكاً وانتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة وظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتاب والحسبان فأمر عبد الملك سليمان بن سعيد والي الأردن لعهده أن ينقل ديوان الشام إلى العربية فأكمله لسنة من يوم ابتدائه ووقف عليه سرجون كاتب عبد الملك فقال لكتاب الروم‏:‏ اطلبوا العيش في غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم‏.‏ وأما ديوان العراق فأمر الحجاج كاتبه صالح بن عبد الرحمن وكان يكتب بالعربية والفارسية ولقن ذلك عن زاذان فروخ كاتب الحجاج قبله ولما قتل زاذان في حرب عبد الرحمن بن الأشعث استخلف الحجاج صالحاً هذا مكانه وأمر أن ينقل الديوان من الفارسية إلى العربية ففعل ورغم لذلك كتاب الفرس‏.‏ وكان عبد الحميد بن يحيى يقول لله در صالح ما أعظم منته على الكتاب‏!‏‏.‏ ثم جعلت هذه الوظيفة في دولة بني العباس مضافة إلى من كان له النظر فيه كما كان شأن بني برمك وبني سهل بن نوبخت وغيرهم من وزراء الدولة‏.‏ وأما ما يتعلق بهذه الوظيفة من الأحكام الشرعية مما يختص بالجيش أو بيت المال في الدخل والخرج وتمييز النواحي بالصلح والعنوة وفي تقليد هذه الوظيفة لمن يكون وشروط الناظر فيها والكاتب وقوانين الحسبانات فأمر راجع إلى كتب الأحكام السلطانية وهي مسطورة هنالك وليست من غرض كتابنا وإنما نتكلم فيها من حيث طبيعة الملك الذي نحن بصدد الكلام فيه‏.‏ وهذه الوظيفة جزء عظيم من الملك بل هي ثالثة أركانه لأن الملك لا بد له من الجند والمال والمخاطبة لمن غاب عنه فاحتاج صاحب الملك إلى الأعوان في أمر السيف وأمر القلم وأمر المال فينفرد صاحبها لذلك بجزء من رياسة الملك‏.‏ وكذلك كان الأمر في دولة بني أمية بالأندلس والطوائف بعدهم‏.‏ وأما في دولة الموحدين فكان صاحبها إنما يكون من الموحدين يستقل بالنظر في استخراج الأموال وجمعها وضبطها وتعقب نظر الولاة والعمال فيها ثم تنفيذها على قدرها وفي مواقيتها‏.‏ وكان يعرف بصاحب الأشغال وكان ربما يليها في الجهات غير الموحدين ممن يحسنها‏.‏ ولما استبد بنو أبي حفص بإفريقية وكان شأن الجالية من الأندلس فقدم عليهم أهل البيوتات وفيهم من كان يستعمل ذلك في الأندلس مثل بني سعيد أصحاب القلعة جوار غرناطة المعروفين ببني أبي الحسن فاستكفوا بهم في ذلك وجعلوا لهم النظر في الأشغال كما كان لهم بالأندلس ودالوا فيها بينهم وبين الموحدين‏.‏ ثم استقل بها أهل الحسبان والكتاب وخرجت عن الموحدين‏.‏ ثم لما استغلظ أمر الحاجب ونفذ أمره في كل شأن من شؤون الدولة تعطل هذا الرسم وصار صاحبه مرؤوساً للحاجب وأصبح من جملة الجباة وذهبت تلك الرياسة التي كانت له في الدولة‏.‏ وأما دولة بني مرين لهذا العهد فحسبان العطاء والخراج مجموع لواحد وصاحب هذه الرتبة هو الذي يصحح الحسبانات كلها ويرجع إلى ديوانه ونظره معقب بنظر السلطان أو الوزير وخطه معتبر في صحة الحسبان في الخراج والعطاء‏.‏ هذه أصول الرتب والخطط السلطانية وهي الرتب العالية التي هي عامة النظر ومباشرة للسلطان‏.‏ وأما هذه الرتبة في دولة الترك فمتنوعة‏.‏ وصاحب ديوان العطاء يعرف بناظر الجيش صاحب المال مخصوص باسم الوزير وهو الناظر في ديوان الجباية العامة للدولة وهو أعلى رتب الناظرين في الأموال لأن النظر في الأموال عندهم يتنوع إلى رتب كثيرة لانفساح دولتهم وعظمة سلطانهم واتساع الأموال والجبايات عن أن يستقل بضبطها الواحد من الرجال ولو بلغ في الكفاية مبالغه فتعين للنظر العام منها هذا المخصوص باسم الوزير وهو مع ذلك رديف لمولى من موالي السلطان وأهل عصبيته وأرباب السيوف في الدولة يرجع نظر الوزير إلى نظره ويجتهد جهده في متابعته ويسمى عندهم استاذ الدولة وهو أحد الأمراء الأكابر في الدولة من الجند وأرباب السيوف‏.‏ ويتبع هذه الخطة خطط عندهم آخرى كلها راجعة إلى الأموال والحسبان مقصورة النظر على أمور خاصة مثل ناظر الخاص وهو المباشر لأموال السلطان الخاصة به من إقطاعه أو سهمانه من أموال الخراج وبلاد الجباية مما ليس من أموال المسلمين العامة‏.‏ وهو تحت يد الأمير استاذ الدار‏.‏ وإن كان الوزير من الجند فلا يكون لاستاذ الدار نظر عليه‏.‏ وناظر الخاص تحت يد الخازن لأموال السلطان من مماليكه المسمى خازن الدار لاختصاص وظيفتهما بمال السلطان الخاص‏.‏ وهذا بيان هذه الخطة بدولة الترك بالمشرق بعدما قدمناه من أمرها بالمغرب‏.‏ والله مصرف الأمور لا رب غيره‏.‏ ديوان الرسائل والكتابة هذه الوظيفة غير ضرورية في الملك لاستغناء كثير من الدول عنها رأساً كما في الدول العريقة في البداوة التي لم يأخذها تهذيب الحضارة ولا استحكام الصنائع‏.‏ وإنما أكد الحاجة إليها في الدولة الإسلامية شأن اللسان العربي والبلاغة في العبارة عن المقاصد‏.‏ فصار الكتاب يؤدي كنه الحاجة بأبلغ من العبارة اللسانية في الأكثر‏.‏ وكان الكاتب للأمير يكون من أهل نسبه ومن عظماء قبيله كما كان للخلفاء وأمراء الصحابة بالشام والعراق لعظم أمانتهم وخلوص أسرارهم‏.‏ فلما فسد اللسان وصار صناعة اختص بمن يحسنه‏.‏ ‏.‏ وكانت عند بني العباس رفيعة‏.‏ وكان الكاتب يصدر السجلات مطلقة ويكتب في آخرها اسمه ويختم عليها بخاتم السلطان وهو طابع منقوش فيه اسم السلطان أو شارته يغمس في طين أحمر مذاب بالماء ويسمى طين الختم ويطبع به على طرفي السجل عند طيه وإلصاقه‏.‏ ثم صارت السجلات من بعدهم تصدر باسم السلطان ويضع الكاتب فيها علامته أولاً أو آخراً على حسب الاختيار في محلها وفي لفظها‏.‏ ثم قد تنزل هذه الخطة بارتفاع المكان عند السلطان لغير صاحبها من أهل المراتب في الدولة أو استبداد وزير عليه فتصير علامة هذا الكتاب ملغاة الحكم بعلامة الرئيس عليه يستدل بها فيكتب صورة علامته المعهودة والحكم لعلامة ذلك الرئيس‏.‏ كما وقع آخر الدولة الحفصية لما ارتفع شأن الحجابة وصار أمرها إلى التفويض ثم الاستبداد صار حكم العلامة التي للكاتب ملغى وصورتها ثابتة اتباعاً لما سلف من أمرها‏.‏ فصار الحاجب يرسم للكاتب إمضاء كتابه ذلك بخط يصنعه ويتخير له من صيغ االإنفاذ ما شاء فيأتمر الكاتب له ويضع العلامة المعتادة‏.‏ وقد يختص السلطان بنفسه بوضع ذلك إذا كان مستبداً بأمره قائماً على نفسه فيرسم الأمر للكاتب ليضع علامته‏.‏ ومن خطط الكتابة التوقيع وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجالس حكمه وفصله ويوقع على القصص المرفوعة إليه أحكامها و الفصل فيها متلقاة من السلطان بأوجز لفظ وأبلغه‏:‏ فإما أن تصدر كذلك وإما أن يحذو الكاتب على مثالها في سجل يكون بيد صاحب القصة‏.‏ ويحتاج الموقع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بها توقيعه وقد كان جعفر بن يحيى يوقع القصص بين يدي الرشيد ويرمي بالقصة إلى صاحبها فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف فيها على أساليب البلاغة وفنونها حتى قيل‏:‏ إنها كانت تباع كل قصة منها بدينار‏.‏ وهكذا كان شأن الدول‏.‏ واعلم أن صاحب هذه الخطة لا بد أن يتخير من أرفع طبقات الناس وأهل المروءة والحشمة منهم وزيادة العلم وعارضة البلاغة فإنه معرض للنظر في أصول العلم لما يعرض في مجالس الملوك ومقاصد أحكامهم من أمثال ذلك مع ما تدعو إليه عشرة الملوك من القيام على الأداب والتخلق بالفضائل مع ما يضطر إليه في الترسيل وتطبيق مقاصد الكلام من البلاغة وأسرارها‏.‏ وقد تكون الرتبة في بعض الدول مستندة إلى أرباب السيوف لما يقتضيه طبع الدولة من البعد عن معاناة العلوم لأجل سذاجة العصبية فيختص السلطان أهل عصبيته بخطط دولته وسائر رتبه فيقلد المال والسيف والكتابة منهم‏.‏ فأما رتبة السيف فتستغني عن معاناة العلم وأما المال والكتابة فيضطر إلى ذلك للبلاغة في هذه والحسبان في الأخرى فيختارون لها من هذه الطبقة ما دعت إليه الضرورة ويقلدونه إلا أنه لا تكون يد آخر من أهل العصبية غالبة على يده ويكون نظره متصرفاً عن نظره‏.‏ كما هو في دولة الترك لهذا العهد بالمشرق فإن الكتابة عندهم وإن كانت لصاحب الانشاء إلا أنه تحت يد أمير من أهل عصبية السلطان يعرف بالدويدار وتعويل السلطان ووثوقه به واستنامتة في غالب أحواله إليه وتعويله على الآخر في أحوال البلاغة وتطبيق المقاصد وكتمان الأسرار وغير ذلك من توابعها‏.‏ وأما الشروط المعتبرة في صاحب هذه الرتبة التي يلاحظها السلطان في اختياره وانتقائه من أصناف الناس فهي كثيرة وأحسن من استوعبها عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكتاب وهي‏:‏ رسالة عبد الحميد الكاتب إلى الكتاب أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفقكم وأرشدكم‏.‏ فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومن بعد الملوك المكرمين أصنافاً وإن كانوا في الحقيقة سواء وصرفهم في صنوف الصناعات وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرزانة‏.‏ بكم ينتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها‏.‏ وبنصحائكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم‏.‏ لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف إلا منكم‏.‏ فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون وأبصارهم التي بها يبصرون وألسنتهم التي بها ينطقون وأيديهم التي بها يبطشون‏.‏ فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم‏.‏ وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم‏.‏ أيها الكتاب‏:‏ إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإن الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون حليماً في موضع الحلم فهيماً في موضع الحكم مقداماً في موضع الإقدام محجماً في موضع الإحجام مؤثراً للعفاف والعدل والإنصاف كتوماً للأسرار وفياً عند الشدائد عالماً بما يأتي من النوازل يضع الأمور مواضعها والطوارق في أماكنها قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره فيعد لكل أمر عدته وعتاده ويهيىء لكل وجه هيئته وعادته‏.‏ فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الأداب وتفقهوا في الدين‏.‏ وابدؤوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم ولا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج‏.‏ وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها وسفساف الأمور ومحاقرها فإنها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب‏.‏ ونزهوا صناعتكم عن الدناءة واربؤوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات‏.‏ وإياكم والكبر والسخف والعظمة فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة‏.‏ وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم وتواصوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم‏.‏ وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره‏.‏ وإن أقعد أحداً منكم الكير عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه‏.‏ فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يصرفها إلا إلى صاحبه وإن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه‏.‏ وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغير الحال‏.‏ فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى القراء وهو لكم أفسد منه لهم‏.‏ فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وخيره ونصيحته وكتمان سره وتدبير أمره ما هو جزاء لحقه ويصدق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه‏.‏ فاستشعروا ذلك‏.‏ وفقكم الله من أنفسكم‏.‏ في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمواساة والإحسان والسراء والضراء‏.‏ فنعمت الشيمة هذه من وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة‏.‏ وإذا ولي الرجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله عز وجل وليؤثر طاعته وليكن مع الضعيف رفيقاً وللمظلوم منصفاً فإن الخلق عيال الله وأحبهم إليه أرفقهم بعياله‏.‏ ثم ليكن بالعدل حاكماً وللأشراف مكرماً وللفيء موفراً وللبلاد عامراً وللرعية متألفاً وعن أذاهم متخلفاً وليكن في مجلسه متواضعاً حليماً وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقاً‏.‏ وإذا صحب أحدكم رجلاً فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحسن واحتال على صرفه عما يهواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة‏.‏ وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيراً بسياستها التمس معرفة أخلاقها‏:‏ فإن كانت رموحاً لم يهجها إذا ركبها وإن كانت شبوباً اتقاها من بين يديها وإن خاف منها شروداً توقاها من ناحية رأسها وإن كانت حروناً قمع برفق هواها في طرقها فإن استمرت عطفها يسيراً فيسلس له قيادها‏.‏ وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وجربهم وداخلهم‏.‏ والكاتب لفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يجاوره من الناس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرفق لصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جواباً ولا تعرف صواباً ولا تفهم خطاباً إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها‏.‏ إلا فارفقوا رحمكم الله في النظر واعملوا ما أمكنكم فيه من الروية والفكر تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة والاستثقال والجفوة ويصير منكم إلى الموافقة وتصيروا منه إلى المواخاة والشفقة إن شاء الله‏.‏ ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير حفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير‏.‏ واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم وقصصته عليكم‏.‏ واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف فإنهما يعقبان الفقر ويذلان الرقاب‏.‏ ويفضحان أهلهما ولا سيما الكتاب وأرباب الأداب‏.‏ وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم‏.‏ ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة وأصدقها حجة وأحمدها عاقبة‏.‏ واعلموا أن للتدبير آفة متلفة وهو الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ علمه ورويته‏.‏ فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه وليوجز في ابتدائه وجوابه وليأخذ بمجامع حججه فإن ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للشاغل عن إكثاره‏.‏ وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وآدابه‏.‏ فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره فقد تعرض بحسن ظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز وجل إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف وذلك على من تأمله غير كاف‏.‏ ولا يقول أحد منكم إنه أبصر بالأمور وأحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته فإن أعقل الرجلين عند ذوي الالباب من رمى بالعجب وراء ظهره ورأى أن أصحابه أعقل منه وأجمل في طريقته‏.‏ وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه من غير اغترار برأيه ولا تزكية لنفسه ولا يكاثرعلى أخيه أو نظيره وصاحبه وعشيره‏.‏ وحمد الله واجب على الجميع وذلك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته والتحدث بنعمته‏.‏ وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل‏:‏ من تلزمه النصيحة يلزمه العمل‏.‏ وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز وجل‏.‏ فلذلك جعلته آخره وتممته به‏.‏ تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده فإن ذلك إليه وبيده‏.‏ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏